لماذا نحب الله؟ لم أجبه؛ لأني رأيت الوضع
خطيراً جدًّا، يقول إنه يحس إحساس العبد المظلوم لدى سيده، وقد بدأ يبتعد
بسرعة عن الله –تعالى-،السؤال هو: لماذا نحب الله؟.
الفتوى :
أجاب عن السؤال الشيخ/ خالد بن حسين بن عبد الرحمن.
الجـواب:
بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله المتصف بصفات الكمال والجمال والجلال، المنزه عن كل عيب ونقصان،
الواحد الأحد، الفرد الصمد، له المحامد كلها، لا أحصي ثناء عليه، هو -
سبحانه- كما أثنى على نفسه، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين،
نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
إلى الأخ أبي الفداء: - سلمه الله تعالى- لقد استوقفني سؤالك هذا طويلاً:
(لماذا نحب الله؟)، وشعرت أنني أمام مهمة صعبة، وجالت في خاطري خواطر عدة،
وازداد الأمر تعقيداً، فهداني الله لأمر، ألا وهو عمل استبيان مصغر لمجموعة
من الإخوة الأفاضل من بينهم بعض طلبة العلم، ومنهم ما دون ذلك، وكانت
الإجابات متقاربة إلى حد التواتر والاتفاق على إجابة واحدة، مع الاختلاف
اليسير في طرق التعبير.
أخي الكريم: إن هذا السؤال على رغم إيجازه، لكن الإجابة عليه ليست بالأمر
الهين؛ فهو كما قيل السهل الممتنع، وقد وجدت ذلك في وجوه الإخوة الذين
أجريت معهم الاستبيان، فما من أحد إلا وجدت الحيرة ارتسمت على وجهه، ولسان
حاله ومقاله يقول هذا السؤال لا ينبغي أن يسأل عنه؛ لأن الفطرة التي فطرنا
الله عليها تستدعي ذلك، وهي المحبة.
إذاً فحب الله أمر فطري جُبل عليه الإنسان منذ ولادته، وهذا هو تفسير قوله –
صلى الله عليه وسلم-: "ما من مولود يولد إلاّ على الفطر، فأبواه يهودانه
أو ينصرانه أو يمجسانه"، والفطرة هنا الإسلام، والمحبة من مقتضيات هذا
الإسلام الذي فطرنا عليه.
أخي: ألا ترى أنك ربما تقابل شخصاً ما، ولم يكن بينك وبينه أية علاقة ولا
معاملة، وهذه أول مرة تقابله فيها، ومع ذلك تجد أن محبة هذا الشخص قد وقعت
في قلبك، ما السبب إذاً لهذه المحبة؟ إنها بفطرة، ولله المثل الأعلى.
أخي: ألا ترى إلى ذلك الطفل الرضيع والذي لا يعقل من الدنيا شيئاً عمره
بضعة أشهر، تجده عندما يرى أمه أو أباه تراه يرتمي في أحضانهما، ألا ترى
أنه إذا شعر بأذى يلوذ بأحدهما دفعاً لهذا الضرر عنه، ما الذي أودع فيه هذا
الحب؟ إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولله المثل الأعلى.
يروى عن أحد الأعراب كان يمتلك قطيعاً من الجمال، فلاحظ هذا الأعرابي أن
هناك جملاً يتخلف عن القطيع كل يوم في وقت محدد، ولفترة محددة، ثم يعود إلى
القطيع مرة أخرى، فأراد الأعرابي أن يعرف سر ذلك الجمل وسر غيابه كل يوم،
وفي نفس الوقت، ونفس المدة، وفي الوقت المحدد، بدأ الجمل في المسير، وأخذ
الأعرابي في مراقبته دون أن يشعر به، وبعد مدة من المسير المضني قرابة عشرة
كيلو مترات، وقف الجمل عند مكان، وجلس عنده، وكأنه يستأنس بالجلوس مع أحد،
وهنا هزَّ الأعرابي رأسه متأثراً معتبراً، وكأني به زفرت عيونه دمعاً،
لماذا؟ لأن هذا المكان الذي جلس عنده الجمل، ويقطع هذه المسافة كل يوم إنه
المكان الذي ماتت فيه أم الجمل، الله أكبر، من الذي أودع في قلب هذا
الحيوان هذا الحب؟ إنها فطرة الله التي فطر الخلق عليها، ولله المثل
الأعلى.
وإن تعجب من هذا الحيوان فليشتد عجبك من هذا الجماد الذي حنَّ وبكى حباً
لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-؛ فهل أتاك خبره؟ وهل جاءك نبأه، إنه لخبر
عظيم، ونبأ جليل، فماذا حدث؟ يروي أهل السير والشمائل المحمدية أن النبي
–صلى الله عليه وسلم- كان يقف في خطبته على جذع نخلة، ولما صنعوا له منبراً
تحول إليه صلى الله عليه وسلم وترك هذا الجذع، فلما تحول عنه صلى الله
عليه وسلم ووقف على المنبر، سمع من في المسجد بكاءً وأنيناً يخرج من هذا
الجزع، فنزل صلى الله عليه وسلم من على المنبر والتزم هذا الجزع واحتضنه
كما تحصن الأم الرءوم ابنها حتى سكن الجزع وكف عن البكاء، ثم قال –صلى الله
عليه وسلم-: إذا لم ألتزمه لظل يبكي إلى قيام الساعة. الله أكبر، يا عبد
الله هذا جزع أصم يبكي حزناً لمفارقة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- له،
فمن الذي أودع هذا الحب في هذا الجزع؟ والأمثلة على ذلك كثيرة، ولله المثل
الأعلى. أبعد هذا كله يأتي إنسان ويقول: لماذا نحب الله؟!! إن النفس
البشرية تأبى إلا أن يكون لها إلهاً تعبده، وتلوذ به إذا ألمّ بها خطر،
وتفزغ إليه لطلب الخير، ودفع السوء، حتى ولو كان هذا الإله من العجوة، أو
من الشجر أو الحجر، أو حتى من الدواب؛ بل وأقل من ذلك، وهذا الإله الذي
تتخذه لا بد وأن تحبه وإلا ما اتخذته إلهاً، والإله هو الذي يتأله كل شيء،
ويعبده كل خلق كما قال ابن عباس –رضي الله عنهما-؛ فالألوهية مرتبطة
بالعبودية، والعبودية هي الذل والخضوع والاستسلام لهذا المعبود، ولا يكون
ذلك إلا عن حب؛ ألا ترى إلى أولئك المشركين الذين اتخذوا إلهاً غير الله أو
مع الله؟! فإنهم أحبوا تلك الآلهة وإلا ما عبدوها من دون الله، ولذلك يقول
الله عنهم: "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله
والذين آمنوا أشد حبَّا لله".
إذاً فمحبة الله أمر فطري داخل النفس البشرية، ولا بد لهذه النفس أن يكون
لها إلهاً تعبده وتحبه، وتتذلل إليه، وتخضع له، وتستعين به، وتستغيث به،
وتفزغ إليه، وتلوذ بجاهه إلى غير ذلك من العبادات القلبية، وبعد ذلك تأتي
عوامل أخرى تزيد من هذه المحبة وتقويها، وهذه الأسباب تأتي من المحبوب إلى
محبيه.
ألا ترى أنه إذا أحسن إليك إنسان تجد قلبك تعلق به، وأكن له من المحبة
الشيء الكثير، ولله المثل الأعلى، هذا مع المخلوق، وربما أحسن إليك لأمر
ما، أو لعله ينتظر منك أن تقدم له خدمة، أو تشفع له عند جهة معينة، أو غير
ذلك من أسباب المنفعة الأخرى، ولكنه الله –جل جلاله- الذي أنعم عليك نعمه
الظاهرة والباطنة "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار".
من أنت قبل أن تكون؟ لم تكن شيئاً مذكوراً، فأوجدك الله من العدم، وخلقك من
ماء مهين، ومنذ دبت فيك الروح ونعمه – سبحانه وتعالى- تلاحقك. من الذي
أطعمك وأنت في بطن أمك؟!، من الذي حماك من الأذى، وأنت في بطن أمك؟، من
الذي سوّاك بشراً وأنت في بطن أمك؟!
وعندما حانت ساعة قدومك إلى هذه الدنيا من الذي يسرَّ لك الخروج من بطن
أمِّك؟ واسأل نفسك عن كل طور من أطوار حياتك من الذي هيأ لك السبل، ويسر لك
الأشياء التي تساعدك في هذه الحياة؟ إنه الله – جل جلاله-؛ ألا يدعو ذلك
لأن تحبه حبّاً يفوق كل شيء في الوجود! من الذي أنعم عليك بنعمة الإسلام،
وغيرك كثير من الناس من يعبد الحجر والشجر والدواب والشمس والقمر؟ من الذي
أرسل إليك رسولاً ليخرجك من الظلمات إلى النور؟ ولولا هذا الرسول لكنت
فحماً في جهنم! من الذي أنعم عليك بنعمة المال والصحة، والعلم والجاه،
والزوجة والأولاد وغيرها كثير؟ من الذي سخر لك الأشياء، وهداك في ظلمات
البحر والبر، وحفظك في طبقات الجو؟ إنه الله – جل جلاله-، ألم تفكر يوماً
في نعمة البصر، وكم من أنس حرموا منها؟ ألم تقتر يومياً في نعمة السمع،
ونعمة الكلام، ونعمة الكلام، ونعمة الهواء وغيرها؟ "وفي أنفسكم أفلا
تبصرون".
أخي الحبيب: إننا نحب الله؛ لأنه خلقنا من العدم، وأسبغ علينا وافر النعم،
هدانا الله من الضلالة وعلمنا من الجهالة، وكسانا من العري، وأطعمنا من
الجوع، وروانا من الظمأ، وسقانا من العطش، وأغنانا من الفقر، وعفانا من
المرض، ومن كل ما سألناه أعطانا، فلماذا لا نحبه ونلهج بذكره، ونعطر
أفواهنا بالثناء عليه؟ فهو سبحانه أهلٌ للثناء والحمد، سبحانه وبحمده.
أخي: والله ثم والله، ثم والله، لو أن بحار الدنيا وأنهارها، ومحيطاتها،
ووديانها مدادٌ، وكل ما عليها أقلام، وأردنا أن نحصي نعم الله علينا، لنفد
المداد، وفنت الأقلام، وما جئنا على شيء مما نريد، وما سطرناه في ذات الله
ما هو إلا جزء من قطرة ماء علقت في مخيط ألقي في اليم ثم رفع، والله إنه
ليعجز قلمي عن تستطير ما بداخلي، وكفاني ما ذكرت، فما ذكر كاف لمن أراد
الرشاد والهداية، وقد قيل الظمآن يكفيه من الماء القليل.
أما قولك بأن هذا الشخص يشعر بأنه عبد مظلوم عند سيده، فبعيدٌ عن كثرة
الكلام، وقد كفى ما قد قيل آنفاً، أقول: قال تعالى: "وما ربك بظلام
للعبيد"، وقال تعالى: "وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"، وقال ربنا
–جل وعلا- في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم في صحيحه: "يا عبادي إني حرمت
الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا..."، فأرى أن هذا الأخ
أساء الأدب مع الله غاية الإساءة، فعليه التوبة مما قال، وعليه أن يتعرف
على الخلل الذي في نفسه، ومن قبله قد أُتي، فليستدرك ما فات، وعليه أن
يُقبل على مولاه، بذلٍ وانكسار وإخبات، وسيجد من الله ما يسره، وعليه
بقراءة القرآن وتدبر معانيه، والتفكر في خلق الله من حوله، وعليه بالقراءة
في الكتب التي عنيت بهذا الجانب، وعليه بالقراءة في كتب ابن القيم: (روضة
المحبين)، (مدراج السالكين)، (الداء والدواء)، و (إغاثة اللهفان)، وغيرها
كثير. هذا،
والله أعلم،
وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
منقول للأمانه والافاده